مجلس النواب، الإثنين 10 يونيو 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد رئيس مجلس النواب المحترم؛
السيدات والسادة الوزراء المحترمون؛
السيدات والسادة النواب المحترمون؛
أتشرف بالحضور إلى مجلسكم الموقر لتقديم الجواب على أسئلة السيدات والسادة النواب المحترمين، بخصوص الإصلاحات الحكومية الرامية إلى تحفيز منظومة الاستثمار والنهوض بدينامية التشغيل، باعتبارها ركائز رئيسية لتحسين وضعية المقاولة وتنشيط سوق الشغل الوطني.
ولا يسعني في هذه المناسبة الدستورية الهامة، سوى التنويه عاليا بالانفتاح المتبادل الذي يقودنا جميعا نحو تعزيز فرص نجاح مشروعنا المجتمعي، لاسيما الانخراط الدائم للبرلمان في تتبع مسارات العمل الحكومي وتوطيد لبنات المسار التنموي الوطني على جميع الأصعدة.
فمن جهة، يكتسي هذا الانفتاح التعبئة الجماعية القوية لتعميق الإصلاحات التي دشنتها بلادنا تحت قيادة جلالة الملك نصره الله، خاصة فيما يتعلق بتحصين الاختيارات الهيكلية للمملكة والاستجابة لانتظارات المواطنين.
ومن جهة ثانية، تترجم هذه اللحظات الدستورية إبراز تجند الحكومة المتواصل واشتغالها بكل مسؤولية لإرساء صرح “الدولة الاجتماعية” كأساس متين لخلق شروط التنمية البشرية المستدامة.
حضرات السيدات والسادة،
لقد حققت التجربة المغربية العديد من المكتسبات خلال العقدين الأخيرين، مدعومة بمسلسل الإصلاحات الكبرى على مستوى تحديث المؤسسات والتقدم النوعي في العديد من المجالات. وهو ما عزز مكانة المغرب كوجهة إقليمية لجلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وكقطب للأمن والاستقرار.
ومما يبعث على الاطمئنان، هو أن المغرب، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك نصره الله، يتحلى بقدر كبير من الإرادة للحفاظ على هذا المسار التحولي، ما ساهم في تعزيز صموده في وجه التقلبات الدولية المتتالية، عاكسا بذلك نقط القوة والسمعة الخارجية التي تزخر بها بلادنا.
وبطبيعة الحال، فهذا التقدم الملموس لم يأتِ من فراغ، بل تم تحقيقه بفضل تحسين مجموعة من المؤشرات التي تتعلق أساسا بالرفع من مستوى التنمية والجودة المؤسساتية وتكريس مبادئ الحكامة والمسؤولية.
لذلك فإن الرهان الذي ظل يقودنا طيلة محطات هذه الولاية الحكومية، يتمثل في مواصلة تعميق الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد الوطني، عبر تعبئة منظومة الاستثمار المنتج وتحفيز مناخ الأعمال.
كبوابة أساسية لخلق دينامية متجددة للمقاولة والقطاعات الواعدة ذات الأثر المباشر على سوق الشغل الوطني، وتنويع مصادر تمويل السياسات الاجتماعية.
من هذا المنطلق، نستحضر الدعوة الملكية السامية بمناسبة افتتاح البرلمان في 14 أكتوبر 2022، عندما أبرز جلالته على أننا: “نراهن اليوم، على الاستثمار المنتج، كرافعة أساسية لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحقيق انخراط المغرب في القطاعات الواعدة، لأنها توفر فرص الشغل للشباب، وموارد التمويل لمختلف البرامج الاجتماعية والتنموية”. مؤكدا جلالته في نفس الخطاب على أن بلادنا تراهن على: “أن يعطي الميثاق الوطني للاستثمار، دفعة ملموسة، على مستوى جاذبية المغرب للاستثمارات الخاصة، الوطنية والأجنبية”.
وهي التوجيهات الملكية السديدة، التي تشكل عمق العمل الحكومي في هذا المجال، والدعامة المحورية لدعم بيئة الأعمال الوطنية وخلق الشروط الملائمة للمقاولة وتشجيع دينامية الاستثمار.
حضرات السيدات والسادة،
إن رهان جعل المغرب بلدا للإصلاحات الكبرى، يفرض تحديدا واضحا للأولويات التي يتعين رفعها، وتأسيس لوحة قيادة واضحة للتدخلات العمومية، تأخذ بعين الاعتبار الإرادة الحكومية لإحداث تحولات انتقالية في منظومة الاستثمار ومواكبة الرهانات الوطنية والدولية في هذا المجال، للمساهمة في تقديم الحلول الناجعة للتحديات المرحلية لاسيما إشكالية التشغيل ببلادنا.
وترجمة لهذا الطموح الوطني، جعلنا التجربة الحكومية الحالية منصة لجيل جديد من السياسات والبرامج العمومية المبتكرة.
وحتى يتأتى لنا ذلك، حرصنا منذ بداية الولاية على التوفيق بين تزايد حجم النفقات المالية وتعزيز نجاعة الأداء العمومي، من خلال تعميق إصلاح الميزانية العمومية، ومواصلة اعتماد مقاربة شمولية ومندمجة ترتكز على النتائج، للتجاوب الفعلي مع التحديات المطروحة بتخصيص موارد مالية استثنائية ووضع خيارات إرادية واستباقية.
ولترسيخ هذه الخيارات، عملنا على تكثيف الجهود لترشيد النفقات ومضاعفة الموارد، وتوجيهها نحو المجالات ذات الوقع الاقتصادي والاجتماعي الأكبر. لاسيما من خلال تنزيل الإصلاح الشامل والاستراتيجي لقطاع المؤسسات والمقاولات العمومية.
في هذا الإطار، وعملا بالتوجيهات الملكية السامية تعمل الحكومة على تحسين الحكامة والأهمية الحيوية لقطاع المؤسسات والمقاولات العمومية ضمن المنظومة التدبيرية ببلادنا، عبر الرفع من فعالية تدخلاتها ومعالجة اختلالاتها الهيكلية.
حيث أن تحسين أداء السياسة المساهماتية للدولة التي قدمت الحكومة توجهاتها الاستراتيجية خلال أشغال المجلس الوزاري أمام جلالة الملك يوم فاتح يونيو الجاري، تبرز الأولوية الهيكلية التي يحظى بها هذا الورش في عمل الحكومة منذ بداية هذه الولاية.
وهو توجه يسعى إلى مراجعة النماذج الاقتصادية للمقاولات والمؤسسات العمومية، من خلال تفعيل دور الوكالة الوطنية للتدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة، وتعزيز مساهمتها الإيجابية من حيث خلق الثروة ومردودية الاستثمارات وإنتاج خدمات عمومية ذات جودة.
بما يضمن المصالح العليا للمملكة مستقبلا، لاسيما تلك المرتبطة بقضايا السيادة الوطنية، وتعميق الاندماج القاري والدولي ومواجهة التحديات المناخية والمجالية، بشكل يتلاءم مع أهداف التنمية المستدامة.
وتتعزز هذه الرؤية بتنزيل محاور القانون الإطار المتعلق بالإصلاح الضريبي، باعتباره القناة الأساسية لتحقيق العدالة الضريبية، ومنح المستثمرين والمقاولة شروطا ضريبية مبسطة وشفافة ومحفزة للأنشطة الإنتاجية والمقاولاتية، لاسيما الإصلاحات المتعلقة بالضريبة على القيمة المضافة وإدماج القطاع غير المهيكل.
وتعبئة للإمكانات التي يتيحها الإصلاح الجبائي، فقد نجحنا في وضع اللبنات الأساسية لتحقيق العدالة الجبائية، من خلال توسيع الوعاء الضريبي دون الرفع من الضغط الجبائي على النسيج المقاولاتي الوطني.
حيث تم في هذا الإطار تخفيف العبء الضريبي على المقاولات، عبر توحيد سعر الضريبة على الشركات في نسبة 20% في أفق سنة 2026 عوض سعر 31%.
مع الرفع من نسب تضريب الشركات الكبرى تدريجيا، لتبلغ 35% بالنسبة للشركات التي تفوق أرباحها الصافية 100 مليون درهم.
حضرات السيدات والسادة،
لقد أولت الحكومة اهتماما بالغا لدعم الاستثمار العمومي وتحفيز الاستثمار الخاص، وفقا لقناعتها الراسخة بدور هذا المكون كرافعة أساسية للخروج من الأزمة، وترسيخ دعائم اقتصاد وطني فعال.
ولا جدال اليوم في أن منجزات بلادنا في موضوع تشجيع الاستثمار بشقيه العمومي والخاص، أحرزت تقدما غير مسبوق، بل تجاوزت ما كان منتظرا.
ففي ظل سياق عالمي مطبوع باللايقين الاقتصادي، عرف مستوى الاستثمار العمومي ببلادنا تطورا ملموسا، حيث كان لزاما على الحكومة أن تتدخل لتعبئة موارد مالية إضافية والتعاطي مع ما تفرضه الظرفية.
وإلى جانب دوره في مواصلة الجهود للإبقاء على وتيرة تنزيل الاوراش الاجتماعية، يشكل الاستثمار العمومي رافعة كبرى لمواكبة الرؤية الحكومية في مجال الاستثمار الخاص.
وهكذا، عملت الحكومة على مضاعفة مخصصات الاستثمار العمومي إلى معدلات قياسية لم يشهدها تاريخ الاقتصاد الوطني من قبل، حيث تتوزع قيمتها الإجمالية بين حصة ميزانية الدولة التي ستصل إلى 103 مليار درهم وميزانية المؤسسات والمقاولات العمومية ب 152 مليار درهم، وميزانية صندوق محمد السادس للاستثمار التي ستناهز 45 مليار درهم والجماعات الترابية ب 20 مليار درهم، فضلا عن ميزانية الصندوق الخاص بتدبير الآثار المترتبة على زلزال الحوز والتي تقدر ب 20 مليار درهم.
ويحق لنا اليوم أن نفتخر بما حققناه في هذا الشأن، بعدما تأكد للجميع وبالملموس على أن قناعتنا والتزاماتنا الحكومية، آخذة في طريقها للتفعيل بشكل واقعي يحترم ثقة المغاربة ويمنحهم مزيدا من الأمل والتشبث بالمستقبل.
فهذا هو الاستثمار الاجتماعي الحقيقي الذي نريده، مستندين في ذلك بتوجيهات جلالة الملك أيده الله.
إن هذه الانعطافة الإرادية والتاريخية للاستثمار العمومي، أهلته لتعزيز تمويل الاستراتيجيات القطاعية الواعدة، وتسريع اندماجها ضمن سلاسل القيمة العالمية، مع تجنب كل ما من شأنه أن يعيق الفعالية الاقتصادية لبلادنا.
السيد الرئيس المحترم،
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون،
إن المجهود الحكومي لتقوية الاستثمار العمومي بهذا الشكل الاستثنائي، لا يعكس لوحده الغايات الحكومية في هذا المجال، والتي لا تقف عند هذا الحد، بل تمتد إلى أعمق من ذلك بكثير.
وذلك من خلال نهج سياسة استباقية تروم خلق التوازن بين الاستثمار العام والخاص، ومنح هذا الأخير نفس المجهود ونفس الاهتمام، قصد عكس التوزيع الحالي، في أفق جعل الاستثمار الخاص يبلغ نصف مجموع الاستثمارات الوطنية عند متم سنة 2026، والثلثين في أفق سنة 2030.
في هذا السياق، نجحت الحكومة في تفعيل التوجيهات الملكية السامية الهادفة إلى تمكين بلادنا من ميثاق تنافسي جديد للاستثمار، قادر على خلق فرص الشغل وتحقيق قيمة مضافة عالية وتقليص الفوارق المجالية فيما يتعلق بجلب الاستثمارات، مع مواكبته بخطة طموحة لتحسين مناخ الأعمال.
واليوم نتشرف بكون المغرب يمتلك منظومة متكاملة للاستثمار الخاص، بعد التمكن من إخراج ميثاق جديد للاستثمار في ظرف قياسي، مزود بمنظومة متكاملة من المبادئ المتعلقة بإصلاح سياسة الدولة في هذا المجال.
إن الأهداف الأساسية لميثاق الاستثمار الجديد تشكل نهضة وطنية في الميدان الاقتصادي، وقفزة نوعية أمام المغرب للتموقع في محيطه القاري والعالمي.
وبالنظر لما يتيحه هذا الورش الملكي الكبير من إمكانات مهمة أمام المقاولات المغربية والأجنبية، من أنظمة مبتكرة للدعم موجهة لكل المستثمرين، وشاملة لكل فئات الاستثمار، وآليات مهمة للحكامة ومواكبة عمليات الاستثمار.
وتجدر الإشارة، إلى أنه تم الانتهاء من تنزيل جزء مهم من النصوص التنظيمية المؤطرة لعمليات الاستثمار، والتي تشكل في مجملها خطوة جوهرية فيما يتعلق بتوجيه وتحسين الاستثمارات ببلادنا.
كما أنها تؤسس للانخراط الفعلي للمملكة في مهن المستقبل والقطاعات ذات الطابع الاستراتيجي، فضلا عن دعم انخراط الجهات في المسلسل الاقتصادي وتعزيز الإنتاج المحلي وتحقيق التنمية المستدامة.
وتفعيلا لهذه المقتضيات، باشرت الحكومة حزمة من المبادرات النوعية بهدف مواكبة المستثمرين على المستوى الوطني، والتعريف بالمغرب كوجهة استثمارية متميزة لجذب شركات عالمية جديدة.
وتجدر الإشادة هنا بالأدوار التي أضحت تلعبها الوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، كفاعل رئيسي في تنزيل الرؤية الحكومية في مجال جلب الاستثمارات وتوطينها.
لاسيما من خلال مواصلة تنزيل الاستراتيجية الوطنية لتنمية الاستثمارات الخاصة، على المستويين الجهوي والقطاعي، والرفع من جودة خدمات المراكز الجهوية للاستثمار في التأطير الشامل لحاملي الأفكار والمشاريع.
وهو نفس المسعى الذي نعتزم مواصلته سنة 2024، عبر استكمال إصدار النصوص التطبيقية لتفعيل الميثاق الجديد، وأخص بالذكر نظام الدعم الخاص بتشجيع المقاولات المغربية في التواجد على الصعيد الدولي، والنظام الخاص الموجه للمقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة.
كما نهدف إلى مواصلة تفعيل آليات الحكامة التي ينص عليها ميثاق الاستثمار، من خلال عزم الحكومة التوقيع على عقود قطاعية وجهوية لتعبئة كافة الفاعلين المعنيين، واستكمال الترتيبات التقنية لإحداث مرصد الاستثمار، ومواصلة تنظيم جولات لاستقطاب وتنويع المستثمرين على الصعيدين الوطني والدولي.
ولا يجب أن يغيب عن بالنا، أن الاهتمامات البالغة للحكومة بقضايا الاستثمار، تلتقي في مجملها مع مضامين البرنامج الحكومي، التي أكدت على ضرورة اعتماد نمط جديد للنمو الاقتصادي يلائم رفع مستويات النمو والتشغيل، وأن يكون مبنيا بشـكل أكبر، علـى الرفـع مـن الإنتاجية مع توزيـع أمثل للاسـتثمار.
ولأجل هذا المبتغى، فقد ظلت كل من لجنة الاستثمارات في نسختها السابقة واللجنة الوطنية للاستثمارات حاليا، بمثابة الرافعة المحورية التي مكنتنا من إعطاء دفعة قوية للاستثمار الخاص وتحسين حكامته، نطمح من خلالها إلى الاضطلاع الإيجابي بمهام تنزيل محاور الميثاق الجديد للاستثمار وبناء نموذج اقتصادي تنافسي، وتوفير بيئة مناسبة للمستثمرين.
وقد خلصت الاجتماعات المنعقدة في إطار هذه اللجن، إلى بلوغ حصيلة جد مشرفة، محققة نتائج غير مسبوقة، تمثلت في عقد 12 دورة للجنة الاستثمارات تمت خلالها المصادقة على 199 مشروع اتفاقية وملاحق اتفاقيات، بقيمة مالية إجمالية تجاوزت 241 مليار درهم، تطمح لخلق ما يقارب 140.000 منصب شغل مباشر وغير مباشر.
منها 5 دورات في إطار اللجنة الوطنية للاستثمارات المنبثقة عن ميثاق الاستثمار الجديد، مكنت من المصادقة على 115 مشروعا، بقيمة إجمالية بلغت 173 مليار درهم، ستمكن من إحداث أزيد من 96.000 منصب شغل مباشر وغير مباشر.
وهو ما يوضح بجلاء أن الميثاق الجديد جاء مصحوبا بحزمة إجراءات مندمجة، منحت للاستثمار الخاص فعاليته الميدانية المنتظرة، امتدت آثارها بشكل فوري على دينامية التشغيل، وأعطت للمقاولة المغربية نفسا جديدا، حيث يغطي الرأسمال الوطني 69% من الكتلة الاستثمارية للاتفاقيات المصادق عليها خلال الاجتماعات 5 الأخيرة.
كما يبرز التوزيع القطاعي للمشاريع الاستثمارية التي تمت الموافقة عليها تنوعا ملحوظا في المجالات المستهدفة، وهي مجالات أولوية ذات قيمة مضافة عالية يسعى المغرب لتعزيزها مستقبلا، ويتعلق الأمر بقطاعات الصناعة والتجارة والنقل واللوجيستيك والطاقات المتجددة والمناجم والاتصالات، فضلا عن القطاعات ذات البعد الاجتماعي كالتعليم والصحة والسياحة.
حضرات السيدات والسادة،
إن الحفاظ على هذه الدينامية الصاعدة، رهين بمواصلة دعم بيئة الاستثمار، وتوفير فضاءات مشجعة للنسيج المقاولاتي بكل مستوياته، ورفع الصعوبات المسجلة في هذا الشأن، لضمان الإلتقائية بين كل الفاعلين وإيجاد أرضية ملائمة للنهوض بمناخ الأعمال في شموليته.
وإدراكا من الحكومة لحجم الإشكاليات الرئيسية التي كانت تواجه المستثمرين في الفترة السابقة، لاسيما تلك المرتبطة بتدبير عقود الاستثمار وتنفيذ مضامينه، فنحن مصممون على إطلاق حزمة طموحة ومندمجة من أدوات تنشيط وريادة الأعمال، كمدخل رئيسي لتسريع الإقلاع الاقتصادي وخلق فرص شغل قارة وذات جودة.
وأخذا بعين الاعتبار الإصلاحات الموازية التي نحرص على مواصلتها في هذا الإطار، فقد انتهت الحكومة من بلورة خارطة الطريق الاستراتيجية 2023-2026 الخاصة بتطوير مناخ الأعمال، التي ترتكز على 3 محاور أساسية تتضمن 10 أوراش أولوية و46 مبادرة استراتيجية، بالإضافة إلى دعامة أفقية.
وتفعيلا للإعداد التشاركي والحوار مع مختلف الأطراف المعنية بمناخ الأعمال، خلصت أشغال المناظرة الوطنية المنعقدة في 15 مارس 2023، إلى التأسيس لجيل جديد من التحولات التي ستشمل هذا المجال، تعزيزا للمبادرة المقاولاتية ونهوضا بواقع الاستثمار.
وللتسريع بتنفيذ هذا التحول المهيكل، فإن الحكومة تواصل تعبئة عمل اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال، باعتبارها القناة الأساسية التي نسعى من خلالها إلى مواكبة تطوير هذا المجال، بتنسيق تام مع مختلف الشركاء في القطاعين العام والخاص.
ويجدر التأكيد على أن هذه اللجنة عملت على إطلاق 70% من المبادرات والمشاريع خلال سنة 2023، تم إنجاز 44% منها، في أفق برمجة المبادرات المتبقية خلال السنوات المقبلة.
وتبقى أهم الإنجازات المحققة في تعزيز بيئة الأعمال الوطنية، تلك المرتبطة باعتماد وتحديث مجموعة من النصوص القانونية لتسهيل الاستثمار.
خاصة فيما يتعلق بتقليص آجال الأداء، وتطوير منظومة الصفقات العمومية، والتمويل التعاوني، والإحداث الإلكتروني للمقاولات. وكذا تبسيط أزيد من 45% من المساطر الإدارية المرتبطة بالاستثمار ورقمنتها، بغية تيسير عمليات تدبير عقود الاستثمار أمام المستثمرين الوطنيين والأجانب.
فضلا عن انكباب الحكومة على إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، وجعلها تحت الوصاية المباشرة لرئيس الحكومة، في أفق جعلها قاطرة للتكامل وترويج المؤهلات الاقتصادية للجهات وتعزيز جاذبيتها.
مع مواصلة لا تمركز اتفاقيات الاستثمار من خلال توسيع مهام اللجن الجهوية للاستثمار، عبر منحها صلاحيات المصادقة على الاتفاقيات والمشاريع التي يقل مبلغها الإجمالي عن 250 مليون درهم، وتزويدها بآليات الحكامة والتتبع التي ستوفر للمستثمرين مسارات شفافة للمناخ القانوني والمسطري المؤطر لعقود الاستثمار.
ومن شأن هذا التحول الشمولي لحكامة الاستثمار الجهوي، خلق بيئة مجالية تسمح بضمان التقائية المشاريع الاستثمارية الكبرى ذات الطابع الاستراتيجي مع باقي الاستثمارات الوطنية، خاصة منها الصغرى والمتوسطة.
وبفضل هذا التحسن الذي شهدته منظومة الاستثمار، فإن 90% من المشاريع التي تمت المصادقة عليها في إطار الاجتماعات الأربعة الأولى للجنة الوطنية للاستثمارات، قد شرعت فعليا في عمليات البناء والتهيئة.
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون،
إن هذا التصور الحكومي يجسد عمق الإصلاحات التي عملنا على ترسيخها، في اتجاه تقوية مكانة المغرب عالميا وجعله في صدارة الوجهات الاستثمارية العالمية.
وهو ما كانت له انعكاسات مباشرة في مستويات عديدة، لعل أهمها تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة على المملكة، التي حققت تطورا مهما منذ بداية السنة الجارية، لتبلغ عند متم أبريل الماضي 13.1 مليار درهم، كرقم قياسي لم تشهد المملكة مثيلا له.
في الوقت الذي تعمل الحكومة تنفيذا للتعليمات الملكية السامية، على رسم ملامح الريادة المغربية في مجالات المستقبل، لاسيما عبر مواكبة التحول الشامل في قطاع الطاقة، والتسريع بتنزيل “عرض المغرب” للهيدروجين الأخضر.
وذلك من خلال تعبئة الأوعية العقارية اللازمة وتوفير البنيات التحتية العالية المستوى والخبرات التقنية والبشرية، بما يتماشى مع احتياجات المستثمرين، وجعل المملكة فاعلا تنافسيا في هذا القطاع ذي الآفاق الصاعدة.
وقد تجلت هذه الدينامية كذلك، من خلال جلب مجموعة من المشاريع الاستثمارية ذات طابع استراتيجي، كان آخرها التوقيع التاريخي في غضون الأسبوع الماضي على اتفاقية لإحداث وحدة صناعية متكاملة لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية.
وهي تجربة فريدة من نوعها في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، بكلفة استثمارية إجمالية تبلغ 12,8 مليار درهم، ستمكن من خلق 17.000 منصب شغل مباشر وغير مباشر من ضمنها 2.300 منصب شغل عالي الكفاءة.
السيد الرئيس المحترم،
السيدات والسادة النواب المحترمون،
إن النصف الثاني من الولاية الحكومية، سيشكل مجالا خصبا لمضاعفة الجهود القطاعية واستغلال الفرص المتاحة أمام بلادنا، والتطلع إلى مشروع مجتمعي مندمج يجمع كافة مقومات النجاح.
فلم ندخر جهدا، في مواكبة الحاجيات المتعلقة بسوق الشغل، وفي الارتقاء بمستوى عيش الأسر المغربية، على نحو يجعلها قادرة على الاستجابة لمتطلبات الحياة والتغلب على تحدياتها.
وتتجدد هذه القناعة الحكومية، إيمانا منا بكون موضوع التشغيل بكل أبعاده الاجتماعية والمؤسسية، سيحتل مكانة الصدارة خلال ما تبقى من عمر هذه الحكومة.
كما يجدر التأكيد على أن ما تحقق في مجال إنعاش الشغل ببلادنا، خلال السنتين السابقتين، ساهم مرحليا في التخفيف من أزمتي كوفيد والجفاف.
ومن مكتسباته بلوغ طاقة تشغيلية تجاوزت 620.000 منصب شغل، وامتصاص نسب البطالة الناتجة عن أزمة كوفيد-19 وما تلاها من تحديات ظرفية مركبة.
مع تسجيل بعض التراجعات في مجال التشغيل الفلاحي، وفقدان مناصب شغل مرتبطة بظروف النشاط الفلاحي في العالم القروي، بفعل تظافر العديد من العوامل المناخية والطبيعية الصعبة.
ولا يفوتني التذكير في هذه المناسبة الدستورية، على أن التعاطي الحكومي مع قضايا تشغيل الشباب والرفع من نسب انخراطهم في ميدان الشغل، لم يكن أبدا مجرد شأن عرضي أو ذو طابع ثانوي، بل تم منحه المكانة التي يستحق، وجعله الهدف الأسمى لكل البرامج والتدخلات العمومية.
حضرات السيدات والسادة،
إن ما حققته مختلف الاستراتيجيات الوطنية التي تم اعتمادها منذ بداية الولاية، من نجاحات كبرى ومن تقدم هام، سينعش بلا شك توجه الحكومة خلال السنوات المقبلة نحو تيسير شروط الإدماج الاقتصادي في وجه الفئات الباحثة عن مناصب شغل، لتمتيعهم بأعلى مستوى ممكن من العيش الكريم.
وهو المسار الذي سيتيح التغلب على الصعاب مهما كان حجمها، كما سيمكن من رفع سقف آمالنا وطموحاتنا المستقبلية.
وأنا على اقتناع تام، بأن الحصيلة المرحلية المشرفة للعمل الحكومي، ما هي إلا مداخل حقيقية تعبر عن عمق الطرح الحكومي في تبني حلول هيكلية لقضايا التكوين والشغل والاندماج المهني.
لا سيما من خلال مواصلة إنجاز برنامج مدن المهن والكفاءات وتزويدها بشعب ذات إمكانات تشغيل عالية، حيث أن سنة 2023 عرفت افتتاح 4 مدن جديدة للمهن والكفاءات، ستوفر 100 شعبة في 13 قطب مهني، بسعة استقبال تقدر ب 12.780 مقعد بيداغوجي. مع الالتزام بفتح 3 مدن جديدة للمهن والكفاءات في الموسم الدراسي 2023-2024، وإتمام الأشغال بجهة الداخلة وادي الذهب.
وهو نفس المنحى الإيجابي الذي ميز عمل الحكومة، عندما يتعلق الأمر بالديناميات القطاعية الواعدة ببلادنا، لاسيما النجاحات المحققة في مجالات السياحة والصناعة والصناعة التقليدية والفلاحة.
فمعاينة المكتسبات الكمية والنوعية التي يعرفها حجم الصادرات المغربية وتعزيز علامة “صنع في المغرب”، ليبلغ اليوم ما يناهز 43 مليار دولار سنويا. خاصة في صناعة السيارات وصناعة الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة، إضافة إلى المواد الإلكترونية والصناعات الغذائية وصناعة النسيج والجلد، يؤكد بالملموس جدارة العمل الحكومي في هذه القطاعات الحيوية.
علاوة على الانتقال النوعي المنجز في قطاع السياحة، الذي عرف استقطاب أزيد من 14,5 مليون سائح بعائدات قياسية بلغت أزيد من 105 مليار درهم. كان لها إسهام مباشر في تحقيق إقلاع فعلي للقطاع، واستقطاب نسب عالية من اليد العاملة المتخصصة في مهن الفندقة والسياحة.
وبفضل كل هذه الجهود، مكنت الأنشطة غير الفلاحية من خلق فرص شغل صافية بلغت 116.000 منصب شغل، كمتوسط سنوي خلال سنتي 2022 و2023، على الرغم من التحديات المسجلة، وهو معدل أعلى من متوسط صافي المناصب المحدثة في هذه الأنشطة خلال الفترة 2010-2015 والتي لم تتجاوز 58.000 منصب شغل، في حين استقرت عند 66.000 بين سنتي 2016-2021.
هذا، دون أن ننسى المجهودات الحكومية المتواصلة لتنزيل دعامات الجيل الأخضر، والتي تروم منح الأولوية للعنصر البشري وتعزيز الإنتاج الفلاحي والرفع من تنافسيته. لاسيما وأن القطاع الفلاحي يفتح المجال أمام مسارات واعدة للاستثمار والشراكة بين القطاعين العام والخاص.
مع الانفتاح المستمر على انتظارات الشباب حاملي المشاريع والأفكار المقاولاتية، عبر خلق وتفعيل 12 مركزا جهويا للمقاولين الشباب في قطاع الفلاحة والصناعات الغذائية.
وإن الأرقام التي تم تسجيلها خلال الربع الأول من السنة الجارية، من شأنها تعزيز طموحنا في جعل قطاع التشغيل على رأس الأولويات خلال ما تبقى من عمر هذه الولاية الحكومية.
كما تؤكد نجاعة الخيارات التي باشرناها من خلال جعل الاستثمار آلية لخلق فرص الشغل اللائق، خاصة عبر تشجيع المشاريع المواكبة للتطور الاجتماعي والاقتصادي لبلادنا، بما يتلائم مع التحولات التي يشهدها محيطنا الإقليمي والدولي.
وبلغة الأرقام، فقد عرف الربع الأول من سنة 2024 انتعاشا في القدرة التشغيلية لكل القطاعات الإنتاجية، حيث تم خلق ما يزيد عن 63.000 منصب شغل في قطاع الخدمات، وتسجيل ما يناهز 34.000 منصب شغل جديد في القطاع الصناعي، بما في ذلك الصناعة التقليدية، إضافة إلى تسجيل مؤشرات تؤكد عودة الانتعاش للقطاع الفلاحي، على مستوى خلق فرص الشغل.
حضرات السيدات والسادة النواب،
إن الاختيارات الحكومية الرامية إلى خلق التنوع الاقتصادي، والبحث عن صيغ جديدة لتطوير الأنشطة غير الفلاحية بعد توالي سنوات الجفاف مكنت الاقتصاد الوطني من تحقيق نتائج إيجابية.
حيث استطاعت بلادنا ولله الحمد، تسجيل أرقام مهمة فاقت التوقعات المنتظرة، إذ حققت نسبة النمو سنة 2023 ارتفاعا مهما بلغ 3.4 %.
لتتمكن بلادنا، ولأول مرة، من تجاوز عتبة الـ 140 مليار دولار كناتج داخلي خام، وهو ما يبرز الدينامية التي شهدها النسيج الاقتصادي الوطني خلال السنتين الماضيتين.
وبفضل المجهودات الحكومية كذلك، تمكنا من مواصلة المنحى التنازلي لتقليص حجم المديونية، حيث تراجعت نسبتها إلى ما دون 70%، بعدما سجلت مستويات قياسية سنة 2020.
وفي نفس الوقت، تمكنت الحكومة من تقليص عجز الميزانية إلى 4.3% خلال سنة 2023 بعدما بلغ %7 سنة 2020، وهو ما يؤكد صدقية الالتزام الحكومي الرامي إلى تحقيق نسبة عجز لا تتجاوز 3 % من الناتج الداخلي الخام في أفق سنة 2026.
حضرات السيدات والسادة،
إن هذا المسار الانتقالي الذي تشهده المملكة تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك نصره الله، يجب أن يذكرنا دائما بأن مختلف الصعوبات هي في نفس الوقت فرص سانحة يتعين علينا الاستفادة منها ونجاحات يجب تحقيقها شريطة أن تكون التعبئة عامة، وأن تتظافر جهود كافة الأطراف المعنية، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الباب لمرحلة جديدة قوامها المسؤولية والجدية والإقلاع الشامل.
ويجب أن نتفق اليوم جميعا، على ضرورة معالجة وتجاوز مختلف العراقيل التي ظلت تعيق مسارنا التنموي والاقتصادي، وبالتالي الاتجاه نحو ترشيد التدبير العمومي على جميع المستويات، وإغنائه بأنماط جديدة من الممارسات الجيدة، قصد تحقيق طموحاتنا المشروعة والتجاوب مع التحديات المطروحة.
واسمحوا لي أن أؤكد على أن الإعداد المشترك للمشروع المجتمعي الذي يتقاسمه جميع المغاربة، لا يجب أن تكون غايته الوحيدة هي الرفع الكمي للنمو الاقتصادي فقط، بقدر ما يتطلبه الأمر من حرص مستمر على استغلال العائدات الاقتصادية لصالح الأهداف الاجتماعية؛ أي بلوغ مستوى متقدم من التكامل الوظيفي بين الشق الاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق قيم الإدماج وتكافؤ الفرص والاستدامة.
فعلا، هذه هي الثورة السوسيو-اقتصادية التي نسعى لتكريسها، تلكم الثورة التي أخذناها على عاتقنا، ونحن ماضون في تنفيذها دون التفات إلى الخلف، لنكون في مستوى تطلعات جلالته حفظه الله، متشبعين في سبيل ذلك بقيم الوطنية الحقة وبمبادئ العمل السياسي النبيل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.