الجزائر استرجعت في صفقة بينها وبين النظام الفرنسي سنة 2020، 24 جمجمة على أساس أنها كلها لمقاومين جزائريين أعدمتهم السلطات الفرنسية، ثم يتبين أن 18 منها هي لأشخاص عاديين من سجناء الحق العام الذين كانوا يقضون عقوباتهم في السجون الفرنسية. لقد حظي رفات هؤلاء الموتى باستقبال رسمي يخصص للشهداء والأبطال على الأراضي الجزائرية، بينما لم يكن ذلك سوى خدعة فرنسية خبيثة انطلت على هذا النظام الذي يقتات على شرعية الذكريات والتاريخ، ويحاول أن يربح من خلال هذه “المنجزات” الوهمية المزيد من الوقت لتثبيت أركان حكمه وسلطته.
هذا الصمت المخزي الذي يلوذ به شنقريحة وأزلامه يعكس حجم الورطة التي تورطوا فيها بعد أن باعوا أوهاما لا حصر لها للمواطن الجزائري، وهم يحتفون باسترجاع هذه الرفات على أساس أنها انتصار في مواجهة القوة الاستعمارية السابقة، واعتراف منها بأنفة الجزائريين وعزّتهم بإصرارهم الذي طال لعقود من أجل تكريم شهدائهم الذين لا تزال فرنسا تحتفظ برفات المئات منهم على أراضيها. لقد كان القبول أصلا بهذا التسليم الجزئي للرفات في حد ذاته خطأ سياسيا بليغا، إذ ما معنى أن يستمر استرجاع الرفات بهذا الأسلوب التدريجي في الوقت الذي يمكن فيه أن تطالب السلطات الجزائرية بعملية شاملة لمداواة هذا الجرح، على الرغم من أنه مجرد ملف رمزي فيما يخص العلاقات بين البلدين.
لكن من يعرف الكابرانات يفهم جيدا لماذا يصرون من جهتهم على المعالجة الجزئية والتدريجية لهذا الموضوع، الذي يرى فيه الكثير من المواطنين الجزائريين أنفسهم مجرد مناورات للإلهاء واصطناع لحظات انتصارات وهمية وإطالة عمر المتاجرة التي يمارسها هذا النظام العسكري بأحداث الماضي. ليس لدى هذا النظام أي عرض سياسي يرتبط بواقع الجزائريين وانشغالاتهم الآنية سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية، ولهذا فإن هذا الفراغ لا يمكن ملأه إلا باسترجاع الأسطوانة المشروخة ذاتها عن ذكريات الشهداء والمقاومة التي مضى عليها اليوم أكثر من 60 عاما. ولذلك لا يجب أن يظن أحد أن الكابرانات يريدون فعلا تصفية ملف العلاقات التاريخية مع باريس، فهذا الملف يمثل بالنسبة لهم رأسمال ينبغي استثماره إلى أبعد مدى في تجييش الجمهور وتعبئة الشعب ومنح الشرعية لنظام يقوده مجموعة من مرتزقي جبهة التحرير الوطني.
ومن هنا فإن صمت الكابرانات عن مضامين التحقيق الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” بخصوص الجماجم التي لا علاقة لها بالمقاومين، هو سلوك من صميم العقيدة السياسية لهذا النظام، عقيدة الإنكار ومفارقة الواقع والانغماس الكامل في خرافات الماضي بدلا من الانتباه لما يفرضه الحاضر، وما يطلبه المواطنون الجزائريون اليوم. بل إن الأدهى والأمر من كل هذا أن هذا النظام لا شكّ يخطط لعملية استرجاع أخرى في المستقبل القريب بالتنسيق مع حكومة ماكرون، لذر الرماد في العيون وتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية متبادلة للطرفين، مع كل المراسيم والبروتوكولات التي توحي أمام كاميرات التلفزيون بمشاهد شبيهة بنهايات الحروب الكبرى وتحقيق المصالحات التاريخية.
لشهداء المقاومة الجزائرية الحقيقيين الله، ولأرواحهم المجد والخلود، فلو كان هؤلاء يعلمون أنهم سيتحولون إلى رصيد ورأسمال للمتاجرة السياسية من طرف نظام عسكري متهالك، لتمنوا أن تبقى أسماءهم مغمورة وقبورهم مجهولة حتى لا يعتلي على ظهور تاريخهم وذكرياتهم هؤلاء الأدعياء الذين يوظفون بطولات ثورة شعبية ضد المستعمر من أجل تثبيت أركان نظام لم يعد له ما يبرره أو ما يفسر بقاءه. كيف لا وقد بدأ هذا النظام تاريخه بتصفية المقاومين الفعليين من قبيل كريم بلقاسم وعبان رمضان وغيرهما، ليدعي اليوم التباكي ويذرف دموع التماسيح على أرواحهم ويبيع شرف الثورة الجزائرية في صفقات مفضوحة مع القوة الاستعمارية السابقة.